قلّة من آباء الكنيسة ومعلّميها بلغ تأثيرهم الآفاق اللاهوتية التي بلغها تعليم القدّيس يوحنّا الدمشقي. فإنّ الغرب المسيحي تلقّف مقاربته النظاميّة للاهوت العقائدي وبنى عليها نهاجةً مدرسيّة خاصة به. أمّا الشرق المسيحي الأرثوذكسي فتمسّك من جهته بما قدّمه القدّيس الدمشقي للكنيسة من لاهوت جمالٍ، أي إعلانِ سرّ التجسّد الإلهي بالأيقونات الشريفة المكرّمة، وبنظم التسابيح وإيقاع الموسيقى الكنسيّة الممهور بمصطلح العقيدة المستقيمة الرأي.
عاش قدّيسنا في مرحلة حرجة من تاريخ إمبرطوريّة الروم المسيحية، مرحلة قدوم الفتح العربي إلى بلادنا وصعود دولة الأمويين في دمشق، وكل ما رافق هذه الحقبة من انشقاقات في الكنائس الشرقيّة نتجت عن الصراعات حول شخص المسيح وطبيعتيه ومشيئتيه، وكذلك تفاقم الحرب ضد الأيقونات المقدّسة. وقد تمكّن القدّيس في كلّ هذا أن يكون الشاهد الأمين لإيمان الكنيسة.
لم يكن يوحنّا الدمشقي مجرّد نموذج للعالم الموسوعي في عصره، كان أبًا للكنيسة أي لاهوتيًّا بالمعنى الحقيقي والذي نتمسّك به للكلمة.
فإنّ أبرز خاصيّته في لاهوت الآباء أنّه استمرار حيوي لكرازة الرسل وروحيّتهم في التعليم. بحيث تبقى الكنيسة رسوليّة جامعة في لاهوتها. كرازةُ الرسل البسيطة وجدت لدى الآباء القديسين الصيغ الفكريّة التي خاطبت ثقافة الإنسان في كلّ عصر.
بهذا المعنى يتعاطى القدّيس يوحنّا الدمشقي في اللاهوت من حيث هو علمُ حياة وكلمةٌ محيية، علمٌ يطال عمق كيان الإنسان ويبدّل وجوده "لتكون له حياة ولتكون له بوفرة" (يوحنا 10:10).
لاهوت الآباء خبرة معاشة لحقائق الإيمان. وما العقيدة إلا الإطار الفكري الضامن لاستقامة الرؤيا والعيش، أي لإمكانية تنقّي الإنسان بالنعمة الإلهيّة وتقديس حياته في شركة الكنيسة.
من دون خبرة عيش للإيمان القويم يضحى اللاهوت صيغًا فكريّة فارغة عقيمة. لذا يقارب آباء الكنيسة عقيدة الثالوث الواحد المحيي من حيث هي دعوة للإنسان إلى شركة الحياة مع الله. يفسّرون انبثاق الروح القدس من حيث هو "الرب المحيي" الذي ينقل إلينا حياة الآب، والتي يرسلها إلينا الإبن في الزمن أي في وسط المخاض الحضاري والصيرورة التاريخيّة. يشهد الآباء بأنّ شخص الكلمة الأزلي هو عنصر الحياة الذي عرّفنا الآب بتجسّده من العذراء. وبهذا يوجّهون عبادتنا المسيحيّة وتسبيحنا الكنسي لكي تُرفع إلى الآب بالإبن في الروح القدس.
الأب القديس الدمشقي يعلّمنا قيمة الجسد البشري من حيث هو هيكلٌ لله ومسكنُ لمجده من دونه لا يكون الخلاص ولا التقديس. يعلّمنا أن النعمة الإلهيّة تقدّس المادّة وتجعلها حاملة للبركة والشفاء. وعلى هذا الأساس يبني لاهوت الجمال.
الجمال في عصرنا قيمة بائسة، كلمة تُباع وتُشرى وتُستعمل جزافًا هنا وهناك. آباء الكنيسة يعلّموننا أنّ الجمال ما هو قيمة فكريّة مجرّدة، ولا هو مبدأ أخلاقي نظريّ، بل هو شخصٌ حقيقي وهذا الشخص يُدعى يسوع المسيح.
دعوة اللاهوت الأرثوذكسي اليوم هي أن يكون آبائيًّا فحسب. آبائيًّا كما يعلّمنا الدمشقي يوحنّا أي يخاطب عصره بلغة ثقافة عصره لينقل إلى الناس شهادة الإيمان الحي وجمال السيّد الكلي الإشتهاء، الذي نعرفه في الكنيسة وبه نحيا ونقيم على الدوام إن ثبتنا في كلمة الرب الأزلي وفي نور محبّته. له المجد إلى الدهر. آمين.