كلمة العميد الإرشادية
إفتتاح السنة الدراسية 2016 – 2017
البلمند في 5 أيلول 2016
أحمل إليكم في بداية هذه السنة الدراسية خير الأدعية والبركات من صاحب الغبطة أبينا يوحنا العاشر الكلّي الطوبى بطريرك أنطاكية وسائر المشرق ومن آباء المجمع الأنطاكي المقدس الكليي الاحترام، إذ إن لمعهد اللاهوت كما تعلمون مكانةً خاصة في قلب راعينا الجليل وبطريركنا الذي بذل غير قليل من سني عمره في خدمة هذا المكان وتدبيره، وكذلك لدى آباء مجمعنا الحريصين كل الحرص على خير هذه المؤسسة الكنسية وحسن سير العمل فيها.
تمرّ بلادنا اليوم في مخاضٍ تاريخي ناتجٍ عن محن وحروب وأزمات. شعبنا متألّم مستنزف لا قرار له. ضيقات ههنا، دمار ونار هناك... أفق يبدو مظلمًا لمن لا رجاء له. أما نحن يا إخوتي فثابتون في هذه الأرض وفي شهادة الإنجيل بأن "مياهً كثيرة لا تغمر المحبة" (نشيد الأنشاد 8: 7)، وبأن لغة الوداعة والرجاء ستنتصر لا محالة، مهما علت الأمواج ومهما بدت الظروف صعبةً. نحن قائمون في هذه البقعة من الأرض لنشهد فيها لقوة الرجاء الذي فينا الذي زرعه الرب يسوع على الصليب والذي أزهر عند فجر القيامة وفي كل جرن معمودية، وفي كل قداس وشمعة تضاء.
شرقنا أرض قداسة روّتها دماء الشهداء، ودموع النساك، وتضرعات الأمهات القديسات، وجهاد الآباء من أجل صون عائلاتهم في مخافة الله والأمانة لوصاياه. لذا نؤمن بأن نعمة الله ستعضدنا في أيامنا غير السهلة لنؤدي الشهادة لإنجيل الحق، كما يليق، في ديارٍ هي بأمسّ الحاجة إلى هذه الشهادة.
نجتمع في بداية كل سنة دراسية لنجدّد العهد والرؤيا والمحبة، ونستلهم في هذا التجدّد تقليد كنيستنا الأنطاكية اللاهوتي. لذا يجدر بنا في هذه المناسبة أن نتذكّر أن كنيسة أنطاكية هي مدرسة للاّهوت المعاش. مدرسة للاّهوت الذي يتأسّس على محبّة المسيح المعاشة في الكنيسة في الخبرة الليتورجية الإفخاريستية، في الصلاة، في العيش معًا، في التأني والبذل والعطاء والانتباه إلى الآخر والوداعة، والتماس وجه المسيح المشوق إليه، والمسارعة إلى الالتجاء تحت كنفه، وطلب معونته، كونه البدايةَ والنهايةَ في وجودنا والتاريخ.
اللاهوت الأنطاكي مدرسة صلاة. لقد قدمت كنيستنا للعالم المسيحي كبار النساك ومعلمي الصلاة ومناهج السيرة الإنجيلية الشريفة في الالتصاق بالله والاهتداء بوصاياه المحيية. لاهوتنا المشرقي يقوم على خبرة الصلاة والعبادة أولاً. لا يكتفي بمنهجيات الدراسة الجامعية وحدها بل يتطلّع عبر العمل الجامعي إلى ما هو أبعد وأشمل؛ إلى ما يُدرِج الإنسان بكل طاقاته في مسعى الدنو من سر الله والاستنارة بنور معرفته العجيب والذي يفوق كل عقل وتصور. نحن لا ندرس اللاهوت جلوسًا بل في الركوع والتضرع، في الرجاء والترقب، وفي يقظة النفس والسهر الروحي.
اللاهوت الأنطاكي مدرسة للخدمة. نحن لا نتعاطى علم اللاهوت ولا نقرب الفكر اللاهوتي إلا من أجل خدمة الكنيسة وبنيانها. ولطالما كان معهدنا خير مشتل لرجالات الكنيسة خدّامٍ ورعاةٍ ومعلّمين. غاية وجود معهدنا الأولى والنهائية هي تهيئة رجالٍ مكرسين لخدمة الكنيسة وللسهر على خير الرعية، رجالٍ مدربّين على مواجهة صعاب عصرنا، ومساءلاته وتحدّياته وعقلياته المتشعّبة إلى حدّ التشتّت. رجال يتقنون فن الرعاية، فن الفنون وعلم العلوم، ويبتكرون الأساليب ويعثرون على السبل الناجعة لملاقاة الإنسان اليوم وقبوله واحتضانه وبلسمة جراحاته وتدبير حياته.
اللاهوت الأنطاكي مدرسة لحياة الشركة في الكنيسة. مدرسة للإصغاء وقبول الآخر والاغتناء في التنوع، والانصهار في العمل الكنسي الهادف والمتكامل والبنّاء، الذي ينبع من كأس القربان ويرافق حياتنا في يومياتها وفي حلّها وترحالها.
اللاهوت الأنطاكي مدرسة منهجية صارمة في مقاربة أمهات الكتب والمصادر والنصوص المرجعيّة، وفي تفسيرها. هو استمرار لنهاجة المدرسة الأنطاكية القديمة في تمحيص حروفية النصوص وتقليبها، وتحليل سياقها التاريخي، بغية الارتقاء إلى دلالتها الإيمانية والاستفادة، على أقصى ما يكون، من انعكاسات لاهوتها في حياة الإنسان والجماعة.
اللاهوت الأنطاكي مدرسة للفكر النقدي الثاقب الذي لا يقف عند سطحية الأمور وما تبدو عليه، بل "يمضي إلى العمق" ويلقي الشبكة حيث الصيد الأوفر والدلالة الأسمى للفكر والعمل والتعبير.
اللاهوت الأنطاكي مدرسة لاستمرار حيوية التقليد الكنسي. هو استلهام خلاّق ومنفتح لآباء الكنيسة الذين يطعّمون بمقارباتهم ومعانيهم واقع حياتنا الكنسية، ورؤيانا اللاهوتية، وثمار جهودنا، بحيث ننفتح بثقة وثبات على العصر ونتعهّد إنسانه.
اللاهوت الأنطاكي مدرسةٌ في الانفتاح، مدرسة في قبول الآخر على غيريته واختلافه، وفي مدّ يد التعاون نحوه والتعلّم منه، وبناء الجسور بين الناس والجماعات، والفرح بالآخرين، وتعهد الحوارات التي لا تمَلُّ ولا تنثني أمام عُقَد التاريخ والماضي وصعوبات التواصل وإساءة الفهم.
لاهوتنا مسعى مستمر لفتح قلوبنا للآخر وللولوج إلى قلوب إخوتنا في كل ناحية وصوب من أجل التقارب والبنيان وإرضاء من علّم أن المحبّة وحدها علامة التلميذ الحقيقي للإنجيل.
"مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، إِذْ لَنَا هَذِهِ الْخِدْمَةُ كَمَا رُحِمْنَا، لاَ نَفْشَلُ. بَلْ قَدْ رَفَضْنَا خَفَايَا الْخِزْيِ، غَيْرَ سَالِكِينَ فِي مَكْرٍ، وَلاَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ، بَلْ بِإِظْهَارِ الْحَقِّ، مَادِحِينَ أَنْفُسَنَا لَدَى ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ قُدَّامَ اللهِ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ إِنْجِيلُنَا مَكْتُوماً، فَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُومٌ فِي الْهَالِكِينَ، الَّذِينَ فِيهِمْ إِلَهُ هَذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ. فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبّاً، وَلَكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيداً لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ. لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لِإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وَلَكِنْ لَنَا هَذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ لِلَّهِ لاَ مِنَّا. مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لَكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. مُضْطَهَدِينَ، لَكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لَكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ. حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا. لأَنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِماً لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا الْمَائِتِ." (2 كورنثوس 4: 1-11).
نحن في البلمند نحبّ الإخوة ونرى في لقائهم، والحوار المخلِص معهم، وجهًا من وجوه الرجاء والشهادة لمن غلب الألم والموت والانقسامات ومنحنا نور قيامته والحياة الحقّة.
ختامًا، أطلب منكم يا إخوتي أن تتذكّروا، ما سبقنا فقلناه في الأعوام المنصرمة، إنّنا في البلمند في مكان مقدّس، وإن دعوتنا وخدمتنا ههنا مقدّستان بنعمة الله وبمعونته، فإن الكنيسة تنتظر منا الكثير.
ألا بارك الله جهودنا ومساعينا في السنة الدراسية الجديدة، وجدّد فينا العزم والشجاعة والمحبة، وسدّد خطانا إلى كل عمل صالح بنعمة روحه القدوس.
كل عام وأنتم بخير.